عراب الفن التشكيلي مهنا الدرة
عراب الفن التشكيلي مهنا الدرة.. رحلة الفنان الزاهد والفيلسوف المبدع
على ما تعانيه الحركة التشكيلية في الأردن من سبات بسبب جائحة كورونا وقبل ذلك الوضع الاقتصادي، فإن رحيل أحد قاماتها الفنية وروادها أيقظ الانتباه إلى الخسارة الفادحة التي منيت بها الحركة التشكيلية الأردنية برحيل “عرابها” الفنان التشكيلي مهنا الدرة (1938-2021)
وغصّت شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام بنبأ رحيله (الأحد 25 يناير/كانون الثاني الحالي)، مجمعة على أنه “لم يكن رساما فحسب، بل قامة وطنية، وإنسان، له حضوره الوطني والعربي
ونعاه الأمير علي بن الحسين -عبر تويتر- بصفته صديقا للعائلة، بقوله إنه “قامة أكبر من كونه رسامًا، إنه صرح ثقافي بحد ذاته، في بلدنا والمنطقة، كان صديقا للعائلة بأسرها، تعلمنا الكثير من مهنا وسنبقى ممتنين له طوال حياتنا
كما نعته وزارة الثقافة على لسان وزيرها د. باسم الطويسي الذي رأى أن رحيل الدرة “مثّل خسارة للوطن وللفن، وأن الراحل أيضًا كان دبلوماسيا حمل رسالة الأردن الحضارية إلى العالم
وقال رئيس الجامعة الأردنية د. عبدالكريم القضاة “إن الدرة الذي عمل في قسم الفن بالجامعة كان من العلماء البارزين في مجال الفن
ونعاه كثير من تلاميذه وأصدقائه عبر صفحاتهم الشخصية بمختلف وسائل التواصل، وأناس لم يلتقوا به أبدا، عبّروا عن فداحة الغياب للفنان والدبلوماسي الذي تمتع بشخصية “نبيلة” كما يقول أحد تلاميذه د. مازن عصفور الذي زامله أيضا مدرسًا في الجامعة الأردنية
ووصفه الباحث والكاتب أحمد أبو خليل بأنه “أحد بناة الأردن الحديث في ميدان الفن والثقافة عموما
بدايات التجربة
مهنا الدرة الذي أحب الرسم في سنيّ عمره المبكرة، كان والده سعيد الدرة من أوائل التربويين الأردنيين، درّس الملك حسين، ومع معارضة الوالد خيار ابنه للفن الذي يخرج نجله عن الوقار بالعمل (دهانا) إلا أنه في إحدى المناسبات قدم له هدية وصفها مهنا بالثمينة، وهي علبة ألوان
وبعد إنهاء المرحلة الثانوية ابتعث مهنا الدرة لدراسة الفن بتشجيع من زميل والده في العمل قدري طوقان. وعلى أهمية ما تلقاه الدرة من درس أكاديمي إلا أن قراءته لفنون عصر النهضة وزياراته للمتاحف الثقافية الإيطالية في الستينيات هي التي أسست ثقافته الواسعة التي مزجت بين الشرق والغرب، وتعمقت بفضل رحلاته في عدد من دول العالم وعمله في روسيا الذي أسس لمدرسة أكاديمية في “التصوير”. وهو ما تجلى في تجربته الفنية فكان رائدا في إدخال أسلوب التكعيبية والتجريد إلى الفن التشكيلي، فضلا عن تخطيطاته السريعة (الراقصة)، وتناوله موضوعات تعبر عن النفس الإنسانية، منها المهرج وعامل النظافة، ومشاهد الناس في الشارع، ولعل أشهر رسوم البورتريه التي رسمها هي السيدة السلطية التي أطلق عليها النقاد “موناليزا مهنا الدرة
تنوع التجارب
يتذكر الدرة أنه لدى عودته من إيطاليا في العطلة الصيفية، طلب منه مرافقة رسام إيطالي كان مكلفا بعمل جداريات للجيش الأردني تمثل معارك الثورة العربية، واكتشف أنه لا يعمل بجد، فتولى الرسم المطلوب، وهذا عزز علاقته مع قائد الجيش المشير حابس المجالي الذي كان ينادية تحببا بـ(الشيطان) لإتقانه الوجوه البدوية بدقة متناهية، وتولى بعد ذلك تنفيذ جداريات زينت جدران المدينة الطبية التي مثلت مرحلة الاهتمام بالأسوب التجريدي
إن أهمية تجربة مهنا تتصل بتنوع تجاربه التشكيلية بين الواقعي والتعبيري والتكعيبية والتجريد التي مثلت الانتقالات الأسلوبية لتاريخ الفن في الأردن، وهي التقنيات التي أخذها تلاميذه، ومنهم نبيل شحادة، ومازن عصفور، وعمر الشهوان، وغيرهم، والتي أسست للمشهد التشكيلي الأردني
ويصف أستاذ النحت د. كرام النمري أسلوب الدرة بأنه يعتمد على الطبقات، والتضاد بين الألوان، والتكسير والامتداد القطري بين الزوايا بضربات سريعة، انطلاقا من قناعته بأن العمل يمثل حالة بصرية (تزيينية)
ولا تختلف شخصية الدرة عن أعماله في حركيتها وعكسها للفرح والبهجة لدى المتلقي، فيقول عصفور “إن الدرة كان يتمتع بشخصية دينامية، مثقف، مرح يمزج بين الدعابة وعمق الرؤية والفكر
غير أن ما عزز حضور الدرة الفني والثقافي مقدرته على ملامسة الحس الجماهيري وفي الوقت نفسه اهتمام النخب، وأن “يتواءم بفنه مع الخطاب التحديثي للدولة بإبراز ملمح الشخصية الأردنية عن طريق البورتريهات التي رسمها” وهو ما قرّبه من القصر
زاهد وفيلسوف
يكشف عصفور عن مقدرة بصرية عند الدرة وبصيرة تستكشف الجوانب الدفينة في الشخوص بتأمل وجوهها، وهي خبرة اكتسبها عن طريق إتقانه رسم الوجوه وعمله في تخطيطات ملامح وجوه الشخوص المطلوبين في بعض القضايا الجرمية
ومع أن الدرة كان زاهدًا وفيلسوفًا فطريًا، لكنه في الوقت نفسه كان مشاكسًا ونزقًا عندما يتعلق الأمر بالجمال والفن، وكما يقول أبو خليل “يجتمع في مهنا الدرة الفن والذكاء والدفء والثقافة وخفة الروح واللغة التي تشبه الشعر إلى أن يفاجئك بمفردات شعبية (شوارعية) تعيدك إلى الواقع غير الشاعري عادة
ومن مقولات الدرة الذي تخرج في أكاديمية روما للفنون الجميلة عام 1958أنّ جزءا من التخلف الذي تعيشه البلدان العربية يتمثل في انتقاصها قيمة الثقافة والفن والجمال، وهو الذي يعدّه من أسباب مظاهر التخلف فيها، ويمقت استخدام الفن إعلانيًا، إذ يرى أن معظم الأعمال ذوات الأغراض السياسيّة تداعب عواطف متلقّي العمل وتنسي القيم الفنيّة للعمل نفسه
الدرة الذي أقام عشرات المعارض في الفاتيكان واليابان وأميركا، وصدرت له 3 كتب، وكثير من الدراسات التي تناولت تجاربه، وحاز عددا من الجوائز والأوسمة، كان له الفضل في التعريف بالفن، فهو أول من أسس مركزا خاصا لتدريس الفنون، وأسس معهد الفنون، ودائرة الفنون، وتسلم منصب مدير مطار عمان، وعمل في الحقل الدبلوماسي في إيطاليا وتونس ومصر وسفير جامعة الدول العربية في روسيا
كان يؤمن بأن للفن أبجدية تختلف عن أبجدية الكتابة، رافضا أن تخضع اللوحة للقراءة النقدية الأدبية، مكررا باستمرار المقولة الأرسطية التي تربط الجمال بالخير
وقبل أكثر من عقد من الزمان أصيب بمرض السرطان، لكنه بقي محاربا شرسا بالفن والرسم حتى يومه الأخير، يظلل أحاديثه بمسحة من التصوف التي تشي بإيمانه بوحدة الوجود التي تدل الفنان على الجمال والمحبة التي كان داعية لها، يقضي جل وقته في التأمل وسماع الموسيقى والرسم؛ فهو لا يتذكر أن يوما مرّ عليه دون أن يرسم
أقام له المتحف الوطني للفنون قبل نحو عام معرضا استعاديا تناول مراحل تجربته الفنية بانتقالاتها إلى جهة الموضيع والشكل والألوان والأساليب، وأصدر دليلا تناول مراحله الفنية
ويقول الدكتور عصفور إنه في آخر زيارة للدرة قبل وفاته كان يقول “حينما أخرج إلى الحديقة أسمع أصوات نمل وكائنات تحكي بين الأعشاب
Previous
Next
المصدر